فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] فما وجه اختصاص المستقبل هاهنا بالذكر وهلا قال: فلولا صدقتم؟ نقول: هذا كلام معهم في الدنيا والإسلام فيها مقبول ويجب ما قبله فقال: لم لا تصدقون في ساعتكم، والدلائل واضحة مستمر والفائدة حاصلة، فأما في قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ} لم تكن الفائدة تحصل إلا بعد مدة فقال: لو سافرتم لحصل لكم الفائدة في الحال وقد فات ذلك، فإن كنتم لا تسافرون في الحال تفوتكم الفائدة أيضًا في الاستقبال. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ} ردًا لإنكارهم وتحقيقًا للحق {إِنَّ الأولين والآخرين} من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم، وتقديم الأولين للمبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي.
{لَمَجْمُوعُونَ} بعد البعث، وقرئ {لمجمعون} {لَمَجْمُوعُونَ إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} وهو يوم القيامة ومعنى كونه معلومًا كونه معينًا عند الله عز وجل، والميقات ما وقت به الشيء أي حد، ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرمًا، وإضافته {إلى يَوْمِ} بيانية كما في خاتم فضة، وكون يوم القيامة ميقاتًا لأنه وقتت به الدنيا، و{إلى} للغاية والانتهاء، وقيل: والمعنى {لَمَجْمُوعُونَ} منتهين إلى ذلك اليوم، وقيل: ضمن معنى السوق فلذا تعدى بها.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون} عطف على {إِنَّ الاولين} [الواقعة: 49] داخل في حيز القول، و{ثُمَّ} للتراخي الزماني أو الرتبي {المكذبون} بالبعث، أو بما يعمه وغيره ويدخل هو دخولًا أوليًا للسياق على ما قيل، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم.
{لآكِلُونَ} بعد البعث والجمع ودخولهم جهنم {مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ} {مِنْ} الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدءون للأكل من شجر هو زقوم، وجوز كون الأولى تبعيضية و{مِنْ} الثانية على حالها، وجوز كون {مّن زَقُّومٍ} بدلًا من قوله تعالى: {مِن شَجَرٍ} فمن تحتمل الوجهين، وقيل: الأولى زائدة، وقرأ عبد الله {من شجرة} فوجه التأنيث ظاهر في قوله تعالى: {فَمَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} أي بطونكم من شدة الجوع فإنه الذي اضطرهم وقسرهم على أكل مثلها مما لا يؤكل، وأما على قراءة الجمهور فوجهه الحمل على المعنى لأنه بمعنى الشجرة، أو الأشجار إذا نظر لصدقه على المتعدد، وأما التذكير على هذه القراءة في قوله سبحانه: {فشاربون عَلَيْهِ} أي عقيب ذلك بلا ريث.
{مِنَ الحميم} أي الماء الحار في الغاية لغلبة العطش فظاهر لا يحتاج إلى تأويل، وقال بعضهم: التأنيث أولًا باعتبار المعنى والتذكير ثانيًا باعتبار اللفظ، فقيل عليه: إن فيه اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى على خلاف المعارف فلو أعيد الضمير المذكر على الشجر باعتبار كونه مأكولًا ليكون التذكير والتأنيث باعتبار المعنى كان أولى وفيه بحث، ووجهه على القراءة الثانية أن الضمير عائد على الزقوم أو على الشجر باعتبار أنها زقوم أو باعتبار أنها مأكول، وقيل: هو مطلقًا عائد على الأكل، وتعقب بأنه بعيد لأن الشرب عليه لا على تناوله مع ما فيه من تفكيك الضمائر وكونه مجازًا شائعًا وغير ملبس لا يدفع البعد فتأمل.
{فشاربون شُرْبَ الهيم} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت، أو تسقم سقمًا شديدًا، ويقال إبل هيماء وناقة هيماء كما يقال: جمل أهيم قال الشاعر:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ** صداها ولا يقضي عليها هيامها

وجعل بعضهم {الهيم} هنا جمع الهيماء، وقيل: هو جمع هائم أو هائمة، وجمع فاعل على فعل كبازل وبزل شاذ، وعن ابن عباس أيضًا.
وسفيان {الهيم} الرمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها ومفرده هيام بفتح الهاء على المشهور كسحاب وسحب ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض من قلب الضمة كسرة لتسلم الياء ويخف اللفظ فكسرت الهاء لأجل الياء وهو قياس مطرد في بابه، وقال ثعلب: هو بالضم كقراد وقرد ثم خفف وفعل به ما فعل مما سمعت والعطف بالفاء قيل: لأن الإفراط بعد الأصلي، وقيل: لأن كلا من المتعاطفين أخص من الآخر فإن شارب الحميم قد لا يكون به داء الهيام ومن به داء الهيام قد يشرب غير الحميم، والشرب الذي لا يحصل الري ناشيء عن شرب الحميم لأنه لا يبل الغليل، والذي اختاره ما قاله مفتي الديار الرومية: إن ذلك كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شربًا معتادًا بل يكون مثل شرب الهيم، والشرب بالضم مصدر، وقيل: اسم لما يشرب، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما {شُرْبَ} بفتح الشين وهو مصدر شرب المقيس، وبذلك قرأ جمع من السبعة والأعرج وابن المسيب وشعيب ومالك بن دينار وابن جريج.
وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسر الشين وهو اسم بمعنى المشروب لا مصدر كالطحن والرعي.
{هذا} الذي ذكر من ألوان العذاب {نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدم للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم بعدما استقر لهم القرار واطمأنت لهم الدار في النار، وفي جعله نزلًا مع أنه مما يكرم به النازل من التهكم ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ** جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

وقرأ ابن محيصن، وخارجة عن نافع، ونعيم، ومحبوب، وأبو زيد، وهرون، وعصمة وعباس كلهم عن أبي عمرو {نزلهم} بتسكين الزاي المضمومة للتخفيف كما في البيت، والجملة مسوقة من جهته سبحانه وتعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول، وقوله تعالى: {نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ} تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون بالخلق بقرينة {نَحْنُ خلقناكم} ولما لم يحقق تصديقهم المشعر به قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقولنَّ الله} [لقمان: 25] عملهم حيث لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة بل اقترن بما ينبىء عن خلافه من الشرك والعصيان نزل منزلة العدم والإنكار فحضوا على التصديق بذلك، وقيل: المراد فهلا تصدقون بالبعث لتقدمه وتقدم إنكاره في قولهم: {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47] فيكون الكلام إشارة إلى الاستدلال بالإبداء على الإعادة فإن من قدر عليه قدر عليها حتمًا، والأول هو الوجه كما يظهر مما بعد إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)}.
لما جرى تعليل ما يلاقيه أصحاب الشمال من العذاب بما كانوا عليه من كفران النعمة، وكان المقصود من ذلك وعيد المشركين وكان إنكارهم البعث أدخلَ في استمرارهم على الكفر أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بتحقيق وقوع البعث وشموله لهم ولآبائهم ولجميع الناس، أي أنبئهم بأن الأولين والآخرين، أي هم وآباؤهم يبعثون في اليوم المعين عند الله، فقد انتهى الخبر عن حالهم يوم تُرَجُّ الأرض وما يتبعه.
وافتتح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام به كما افتتح به نظائره في آيات كثيرة ليكون ذلك تبليغًا عن الله تعالى.
فيكون قوله: {قل إن الأولين} إلخ استئنافًا ابتدائيًا لمناسبة حكاية قولهم: {أئذا متنا وكنا ترابًا} [الواقعة: 47] الآية.
والمراد بـ {الأولين}: من يصدق عليه وصف (أول) بالنسبة لمن بعدهم، والمراد بـ {الآخرين}: من يصدق عليه وصف آخر بالنسبة لمن قبله.
ومعنى {مجموعون}: أنهم يبعثون ويحشرون جميعًا، وليس البعث على أفواج في أزمان مختلفة كما كان موت الناس بل يبعث الأولون والآخرون في يوم واحد.
وهذا إبطال لما اقتضاه عطف {أو آباؤنا الأولون} في كلامهم من استنتاج استبعاد البعث لأنهم عدُّوا سَبْقَ من سبق موتُهم أدل على تعذر بعثهم بعد أن مضت عليهم القرون ولم يبعث فريق منهم إلى يوم هذا القيل، فالمعنى: أنكم.
وتأكيد الخبر بـ (إن) واللام لرد إنكارهم مضمونَه.
والميقات: هنا لمعنى الوقت والأجل، وأصله اسم آلة للوقت وتوسعوا فيه فأطلقوه على الوقت نفسه بحيث تعتبر الميم والألف غير دَالّتين على معنًى، وتوسعوا فيه توسعًا آخر فأطلقوه على مكان لعملٍ مّا.
ولعل ذلك متفرع على اعتبار ما في التوقيت من التحديد والضبط، ومنه مواقيت الحج، وهي أماكن يُحرم الحاج بالحج عندها لا يتجاوزها حلالًا.
ومنه قول ابن عباس: (لم يوقت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الخمر حَدًّا معيَّنًا).
ويصح حمله في هذه الآية على معنى المكان.
وقد ضمن {مَجْمُوعون} معنى مسوقون، فتعلق به مجرورهُ بحرف {إلى} للانتهاء، وإلا فإن ظاهر {مجموعون} أن يعدّى بحرف (في).
وأفاد تعليق مجروره به بواسطة (إلى) أنه مسير إليه حتى ينتهي إليه، فدل على مكان.
وهذا من الإِيجاز.
وإضافة {ميقات} إلى {يوم معلوم} لأن التجمع واقع في ذلك اليوم.
وإذ كان التجمع الواقع في اليوم واقعًا في ذلك الميقات كانت بين الميقات واليوم ملابسة صححت إضافة الميقات إليه لأدنى ملابسة وهذا أدقّ من جعل الإِضافة بيانية.
وهذا تعريض بالوعيد بما يلقونه في ذلك اليوم الذي جحدوه.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51).
هذا من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم.
و {ثم} للترتيب الرتبي فإن في التصريح بتفصيل جزائهم في ذلك اليوم ما هو أعظم وقعًا في النفوس من التعريض الإِجمالي بالوعيد الذي استفيد من قوله: {إن الأولين والآخرين لمجموعون} [الواقعة: 49، 50].
وهذا التراخي الرتبي مثل الذي في قوله تعالى: {قل بلى وربي لتبعثن ثم لَتُنَبّؤنَّ بما عملتم} [التغابن: 7] بمنزلة الاعتراض بين جملة {إن الأولين والآخرين} [الواقعة: 49] وجملة: {خلقناكم فلولا تصدقون} [الواقعة: 57].
والخطاب موجه للمقول إليهم ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم فليس في هذا الخطاب التفات كما قد يتوهم، وفي ندائهم بهذين الوصفين إيماء إلى أنهما سبب ما لحقهم من الجزاء السَّيّىء، ووصفهم بأنهم: ضالون مكذّبون، ناظر إلى قولهم: {أئذا متنا وكنا ترابًا} [الواقعة: 47] إلخ.
وقدم وصف {الضالون} على وصف {المكذبون} مراعاة لترتيب الحصول لأنهم ضلّوا عن الحق فكذبوا بالبعث ليحذروا من الضلال ويتدبروا في دلائل البعث وذلك مقتضى خطابهم بهذا الإنذار بالعذاب المتوقع.
وشجر الزقوم: من شجر العذاب، تقدم في سورة الدخان.
والحميم: الماء الشديد الغليان، وقد تقدم في قوله تعالى: {لهم شراب من حميم} في سورة الأنعام (70) وتقدم قريبًا في هذه السورة.
والمقصود من قوله: {فمالئون منها البطون} تفظيع حالهم في جزائهم على ما كانوا عليه من الترف في الدنيا بملء بطونهم بالطعام والشراب ملْئًا أنساهم إقبالهم عليه وشرْبهم من التفكرَ في مصيرهم.
وقد زيد تفظيعًا بالتشبيه في قوله: {فشاربون شرب الهيم}، كما سيأتي، وإعادة فعل (شاربون) للتأكيد وتكرير استحضار تلك الصورة الفظيعة.
ومعنى {شاربون عليه} يجوز أن يكون (على) فيه للاستعلاء، أي شاربون فوقه الحميم، ويجوز مع ذلك استفادة معنى (مع) من حرف (على) تعجيبًا من فظاعة حالهم، أي يشربون هذا الماء المحرق مع ما طعموه من شجر الزقوم الموصوفة في آية أخرى بأنها {يغلي في البطون كغَلي الحميم} [الدخان: 45، 46] فيفيد أنهم يتجرعونه ولا يستطيعون امتناعًا.